فصل: سورة الجمعة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (14):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [14].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ} أي: أنصار الحق الذي أنزله وأمر به، {كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ} أي: من معي وجندي متوجهاً إلى نصرة الله، {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ} أي: ننصر دينه، وما أمر به، وندعو إليه، ونضحّي لأجله حياتنا، {فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي: بعيسى عليه السلام، ونهضت تدعوا إلى ما بعث به، وتنشر دعوته، {وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ} أي: برسالته والحق الذي معه، {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ} من اليهود والرومان الوثنيين، و{فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} أي: غالبين عليهم بالبراهين الواضحة، والحجج الظاهرة، والسلطة القاهرة، وفيه بشارة للمؤمنين بالتأييد الرباني لهم، ما داموا متناصرين على الحق، مجتمعين عليه، غير متفرقين عنه ولا متخاذلين، كما وقع لسلفهم، اتفقوا فملكوا، وإلا فإذا تفرقوا هلكوا.
لطيفة:
ليس التشبيه على ظاهره، من تشبيه كون المؤمنين أنصار الله بقول عيسى، إذ لا وجه لتشبيه الكون بالقول، بل هو مؤول بجعل التشبيه باعتبار المعنى، إما على تقدير: قل لهم، كما قال عيسى، لظهوره فيه، وانصباب الكلام إليه، أو تقدير: كونوا أنصار الله، كما كان الحواريون حين قال لهم عيسى: من أنصاري إلى الله؟
قال الشهاب: فـ: {مَا} مصدرية، وهي مع صلتها ظرف، والأصل: ككون الحواريين أنصاراً وقت قول عيسى. ثم حذف المظروف، وأقيم ظرفه مقامه. وقد جعلت الآية من الاحتباك. والأصل: كونوا أنصار الله حين قال لكم النبيّ: من أنصاري إلى الله؟ كما كان الحواريون أنصار الله، حين قال لهم منهما، أنصاري إلى الله؟ فحذف من كل منهما، ما دل عليه المذكور في الآخر. وهو كلام حسن. انتهى.

.سورة الجمعة:

بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 2):

القول في تأويل قوله تعالى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [1- 2].
{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ} أي: العرب، {رَسُولاً مِّنْهُمْ} أي: من أنفسهم، أمياً مثلهم، {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} أي: مع كونه أمياً مثلهم لم تعهد منه قراءة ولا تعلم، {وَيُزَكِّيهِمْ} أي: من خبائث العقائد والأخلاق، {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} أي: القرآن والسنة {وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} أي: جور عن الحق، وانحراف عن سبيل الرشد. وهو بيان لشدة افتقارهم إلى نبي يرشدهم.
قال ابن كثير: فبعثه الله سبحانه وتعالى على حين فترة من الرسل، وطموس من السبل، وقد اشتدت الحاجة إليه، وذلك أن العرب كانوا قديماً متمسكين بدين إبراهيم عليه السلام فبدّلوه وغيروه، واستبدلوا بالتوحيد شركاً، وباليقين شكاً، وابتدعوا أشياء لم يأذن بها الله. وكذلك أهل الكتاب قد بدلوا كتبهم وحرفوه، فيأولوها، فبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم بشرع عظيم كامل شامل لجميع الخلق، فيه هدايتهم، والبيان لجميع ما يحتاجون إليه من أمر معاشهم ومعادهم، والدعوة لهم إلى ما يقربهم إلى الجنة، ورضا الله عنهم، والنهي عما يقربهم إلى النار وسخط الله تعالى، حاكم فاصل لجميع الشبهات والشكوك والريب، في الأصول والفروع، وجمع له تعالى- وله الحمد والمنة- جميع المحاسن فيمن كان قبله، وأعطاه ما لم يعط أحداً من الأولين، ولا يعطيه أحداً من الآخرين، فصلوات الله وسلامه عليه دائماً إلى يوم الدين. انتهى.
وإنما أوثرت بعثته صلوات الله عليه في الأميين، لأنهم أحدُّ الناس أذهاناً، وأقواهم جناناً، وأصفاهم فطرة، وأفصحهم بياناً، لم تفسد فطرتهم بغواشي المتحضرين، ولا بأفانين تلاعب أولئك المتمدنين، ولذا انقلبوا إلى الناس بعد الإسلام بعلم عظيم، وحكمة باهرة، وسياسة عادلة، قادوا بها معظم الأمم، ودوخوا بها أعظم الممالك. وإيثار البعثة فيهم- بمعنى إظهارها فيهم- لا ينافي عموم الرسالة، كما قال سبحانه: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} [الأعراف: 158]. وقوله:
{لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} [الأنعام: 19] وهو ظاهر قوله:

.تفسير الآية رقم (3):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [3].
{وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} معطوف على {الْأُمِّيِّينَ}
يعني: أنه بعثه في الأميين الذين على عهده، وفي آخرين من الأميين لم يلحقوا بهم بعد، وسيلحقون بهم، وهم الذين بعد الصحابة رضي الله عنهم، من كل من دخل في الإسلام إلى يوم القيامة، كما فسره مجاهد وغيره، واختاره ابن جرير.
قال الرازي: فالمراد بالأميين العرب، وبالآخرين سواهم من الأمم، وجعلهم منهم؛ لأنهم إذا أسلموا صاروا منهم، فالمسلمون كلهم أمة واحدة، وإن اختلفت أجناسهم، قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} [التوبة: 71]، انتهى.
تنبيه:
قال بعض المحققين: في الآية معجزة من معجزات النبوة، وذلك في الإخبار عن غيب وقع، والبشارة بدخول أمم غير العرب في الإسلام قد حصل، فقد صارت تلك الأمم التي أسلمت، من العرب لأن بلادهم صارت بلاد العرب، ولغتهم لغة العرب، وكذلك دينهم وعاداتهم، حتى أصبحوا من العرب جنساً وديناً ولغة، وحتى صار لفظ العرب يطلق على كل المسلمين من جميع الأجناس، لأنهم أمة واحدة {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المؤمنون: 52]، فصدق الله العظيم.

.تفسير الآية رقم (4):

القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [4].
{ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} يعني بعثته تعالى رسولاً في الأميين، وفي آخرين، فضله تفضل به على من اصطفاه واختاره لذلك، وهو أعلم حيث يجعل رسالته، والآيات هذه رد على من أنكر نبوته صلى الله عليه وسلم من يهود المدينة، حسداً وعناداً، مع أن لديهم من شواهد رسالته ما لا ترتاب أفئدتهم بصدقها، ولذا نعى عليهم مخالفتهم لموجب علمهم، بقوله سبحانه:

.تفسير الآية رقم (5):

القول في تأويل قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [5].
{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} قال الزمخشري: شبه اليهود في أنهم حملة التوراة وقراؤها، وحفاظ ما فيها، ثم إنهم غير عاملين بها، ولا منتفعين بآياتها؛ وذلك أن فيها نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، والبشارة به، ولم يؤمنوا به- بالحمار حمل أسفاراً- أي: كتباً كباراً من كتب العلم، فهو يمشي بها ولا يدري منها إلا ما يمرّ بجنبيه وظهر من الكد والتعب، وكل من علم ولم يعمل، فهذا مثله، وبئس المثل! {بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} وهو اليهود الذين كذبوا بآيات الله، الدالة على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ومعنى {حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ} كلفوا علمها، والعمل بها، ثم لم يحملوها، ثم لم يعملوا بها، فكأنهم لم يحملوها في الحقيقة لفقد العمل. انتهى.
قال الإمام ابن القيم في أعلام الموقعين: قاس من حَمّلَه سبحانه كتابه ليؤمن به ويتدّبره ويعمل به ويدعو إليه، ثم خالف ذلك، ولم يحمله إلا على ظهر قلب، فقراءته بغير تدّبر ولا تفهّم ولا اتباع له، ولا تحكيم له، وعمل بموجبه- كحمار على ظهره زاملة أسفار- لا يدري ما فيها، وحظه منها حملها على ظهره ليس إلا. فحظه من كتاب الله كحظ هذا الحمار من الكتب التي على ظهره، فهذا المثل، وإن كان قد ضرب لليهود، فهو متناول من حيث المعنى، لمن حمل القرآن، فترك العمل به، ولم يؤدّ حقه، ولم يرعه حق رعايته. انتهى. {وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} أي: الذين ظلموا أنفسهم، فكفروا بآيات ربهم.

.تفسير الآية رقم (6):

القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [6].
{قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} كان اليهود يقولون: نحن أبناء الله وأحباؤه، فقيل لهم: إن كنتم صادقين في زعمكم، وعلى ثقة من أمركم، فتمنوا على الله أن يميتكم، وينقلكم سريعاً إلى الآخرة، فإن الحبيب يتمنى لقاء من يحب، ولا يفرّ منه، ويود أن يستريح من كرب الدنيا وغمومها، ويصير إلى روح الجنان ونعيمها.

.تفسير الآيات (7- 8):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [7- 8].
{وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} أي: من المعاصي والسيئات والكفر {وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ} أي: فيجازيهم على أعمالهم، وتقدم في البقرة نظير الآية: {قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ} [البقرة: 94].
{قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ} أي: تخافون أن تتمنوه بلسانكم، مخافة أن يصيبكم، فتؤخذوا بأعمالكم {فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: من الأعمال، حسنها وسيئها، فيجازيكم عليها.

.تفسير الآيات (9- 10):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [9- 10].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ} أي: عند جلوس الإمام على المنبر، لأنه لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نداء سواه، «كان إذا جلس على المنبر، أذّن بلال رضي الله عنه» {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} أي: الخطبة والصلاة {وَذَرُوا الْبَيْعَ} أي: في ذلك الوقت. قال أبو مالك: كان قوم يجلسون في بقيع الزبير، فيشترون ويبيعون إذا نودي للصلاة يوم الجمعة، فنزلت: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ} أي: سعيكم لها، وترك البيع، خير لكم مما نفعه يسير، وربحه مقارب {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ} أي: أديت وفرغ منها {فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي: أذكروا أمره ودِينه وشرعه دائماً، لتصير ملكة لكم، تظهر آثارها على أعمالكم وأخلاقكم، فتفلحوا بسعادة الدارين.
قال ابن جرير: أي: اذكروه بالحمد له، والشكر على ما أنعم به عليكم من التوفيق لأداء فرائضه، لتفلحوا فتدركوا طلباتكم عند ربكم، وتصلوا إلى الخلد في جنانه.

.تفسير الآية رقم (11):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [11].
{وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً} أي: عِيرَ تجارة {أَوْ لَهْواً} أي: ما تلهو به النفس عن الحق والجد النافع {انفَضُّوا إِلَيْهَا} أي: أسرعوا إلى التجارة خشية أن يُسبقوا إليها، وإنما أوثر ضميرها لأنها الأهم المقصود {وَتَرَكُوكَ قَائِماً} أي: على المنبر {قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ} أي: من الثواب المرجوّ بسماع الخطبة والعظة بها {خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ} أي: لأن الثواب مخلد نفعه، بخلاف ما يتوهمونه منها.
قال الشهاب: وتقديم اللهو؛ لأنه أقوى مذمة، فناسب تقديمه في مقام الذم.
{وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} أي: فاعملوا للأعراض الباقية عنده، فإنها خير من الأمور الفانية عندكم، وفوضوا أمر الرزق إليه بالتوكل، والثقة بفضله، فإنه خير الرازقين.
تنبيهات:
الأول: قال الرازي: وجه تعلق آية الجمعة بما قبلها، هو أن الذين هادوا يفرون من الموت لمتاع الدنيا وطيباتها، والذين أمنوا يبيعون ويشرون لمتاع الدنيا وطيباتها كذلك. فنبههم الله تعالى بقوله:
{فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} أي: إلى ما ينفعكم في الآخرة، وهو حضور الجمعة، لأن الدنيا ومتاعها فانية، والآخرة وما فيها باقية. قال تعالى: {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 17]. ووجه آخر في التعلق، قال بعضهم: قد أبطل الله قول اليهود في ثلاث: افتخروا بأنهم أولياء الله وأحباؤه فكذبهم بقوله:
{فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 94]، وبأنهم أهل الكتاب، والعرب لا كتاب لهم، فشبههم بالحمار يحمل أسفاراً. وبالسبت، وليس للمسلمين مثله، فشرع الله لهم الجمعة، انتهى.
وقال المهايميّ في وجه المناسبة: بيّن الله تعالى أن مقتضى الإيمان الاجتماع على الخير، لاسيما الشكر على الْإِنْسَاْنية، لئلا تنقلب حمارية أو بهيمية، في مقابلة اجتماع أهل الكتاب على الشر، الذي جرهم إلى الحمارية والبهيمية.
الثاني: قال السيوطي في الإكليل: في قوله تعالى: {إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} مشروعية صلاة الجمعة، والأذان لها، والسعي إليها، وتحريم البيع بعد الأذان. واستدل بالآية من قال: إنما يجب إتيان الجمعة على من كان يسمع فيه النداء. ومن قال: لا يحتاج إلى إذن السلطان، لأنهه تعالى أوجب السعي، ولم يشترط إذن أحد. ومن قال: لا تجب على النساء لعدم دخولهن في خطاب الذكور. انتهى.
الثالث: في الإكليل: في قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} إباحة الانتشار عقب الصلاة، فيستفاد منه تقديم الخطبة عليها. انتهى.
وظاهره أنه لا يشرع بعد أدائها صلاة ما، غير أنه «كان صلى الله عليه وسلم يتنفل بعدها في بيته ركعتين»، وفي رواية «أربعاً». وأما اعتقاد فريضة الظهر بعدها إذا تعددت، فتعصب مذهبي لا برهان له. وقد قلت في مقدمة مجموعة الخطب، في الفائدة الرابعة ما مثاله:
الحاجة في هذه البلاد في هذه الأوقات تدعو إلى أكثر من جمعة، إذ ليس للناس جامع واحد يسعهم، ولا يمكنهم جمعة واحدة أصلاً، إلا أن خروجها عن حد أن لا فرق بينها وبين بقية الصلوات في كثير من المساجد الصغيرة التي لم تشيد لمثلها، قد هوَّل فيه السبكي في فتاويه؛ لأنه مما تأباه مشروعيتها، وما مضى عليه عمل القرون الثلاثة، بل تسميتها جمعة، فإن صيغة فُعُلَة في اللغة للمبالغة. وبالجملة فالجوامع الكبار التي تؤمها الأفواج يوم الجمعة ويحتاج لإقامتها فيها حاجة بينة لمجاوريها، هي التي لا خلاف في جوازها مهما تعددت، والتي لا تعاد الظهر بعدها، وقد بسطناه في كتابنا إصلاح المساجد من البدع والعوائد.
الرابع: يدل قوله تعالى: {وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} على عدم مشروعيته تعطيل يوم الجمعة، ففيه تعريض بمجانبة التشبه بأهل الكتاب في تعطيل يومي السبت والأحد، وردّ على ما ابتدع فيه من الوظائف ما يدعو إلى الانقطاع عن كل عمل. والأصل أن كل ما لم ينص عليه الكتاب الحكيم، ولا الهدي النبويّ، من خبر قويم، فهو تشريع ما لم يأذن به الله. وإذا رفع الله بفضله عنا الإصر والأغلال التي كانت على من قبلنا، فما بالنا نستجرّها إلينا بالأسباب الضعيفة؟ فاللهم غفراً.
الخامس: قال في الإكليل: في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً} مشروعية الخطبة، والقيام فيها، واشتراط الجماعة في الصلاة، وسماعهم الخطبة، وتحريم الانفضاض، انتهى.
وفي الصحيحين عن جابر قال: قدمت عيرٌ مرةً المدينة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فخرج الناس، وبقي اثنا عشر رجلاً، فنزلت {وَإِذَا رَأَوْا} الآية.
وروى ابن جرير عن جابر قال: كان الجواري إذا نكِحوا يمرون بالكَبَر والمزامير، ويتركون النبيّ صلى الله عليه وسلم قائماً على المنبر، وينفضون إليها، فأنزل الله: {وَإِذَا رَأَوْا} الآية.
وعن مجاهد: اللهو الطبل.